سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الأخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} [النساء: 39] فكأنه قال: فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، فرغب بذلك في الايمان والطاعة.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة: الأول: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة.
وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، ثم قال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة و{مِثْقَالَ} مفعال من الثقل يقال: هذا على مثقال هذا، أي وزن هذا، ومعنى {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي ما يكون وزنه وزن الذرة.
واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيراً، ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا} [يونس: 44].
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد، لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا، فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله، وأيضاً لو خلق الظلم في الظالم، ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه، ولا على دفعه بعد وجوده، ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته: لم ظلمت ثم يعاقبه عليه، كان هذا محض الظلم، والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم.
والجواب: المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مراراً لا حد لها، وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت، إلا أنها ترجع إلى حرف واحد، وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب، والسؤال على هذا الحرف معين، وهو المعارضة بالعلم والداعي، فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه، ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح، إلا إذا كان هو قادرا عليه، ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة.
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولم يلزم أن يصح ذلك عليه، وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار، ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما، لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم، وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم.
والجواب: أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال، فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم، فلهذا أطلق عليه اسم الظلم، والذي يدل على أن الظلم محال من الله، أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم، وهما محالان على الله، ومستلزم المحال محال، والمحال غير مقدور. وأيضاً الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير، والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه، فيمتنع كونه ظالما. وأيضاً: الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة، فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحاً، ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال، وحينئذ يحتاج في حصول صفة الالهية له إلى مخصص وفاعل، وذلك على الله محال.
المسألة الخامسة: قالت المعتزلة: إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة مدة مائة سنة.
وقال أصحابنا: هذا باطل؛ لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد من عقاب شرب هذه القطرة، فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم، وإنه منفي بهذه الآية.
المسألة السادسة: قال الجبائي: إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات، ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء.
وقال ابنه أبو هاشم: بل ينحبط.
واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالاحباط فانا نقول: لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط، والقسمان باطلان. فالقول بالاحباط باطل. إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر، لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا، ضرورة أن العلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول، وذلك محال.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة، لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة، لا في جلب ثواب، ولا في دفع عقاب وذلك ظلم، وهو ينافي قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الاحباط على ما تقوله المعتزلة.
المسألة السابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة، فقالوا: لا شك أن ثواب الايمان، والمداومة على التوحيد، والاقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والاكرام، والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة: أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر، فاذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم، فاذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب، فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة.
النوع الثاني: من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية:
قوله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير {حَسَنَةٌ} بالرفع على تقديره كان التامة، والمعنى: وإن حدثت حسنة، أو وقعت حسنة، والباقون بالنصب على تقدير كان الناقصة والتقدير: وإن تك زنة الذرة حسنة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر {يضاعفها} بالتشديد من غير ألف من التضعيف، والباقون {يضاعفها} بالألف والتخفيف من المضاعفة.
المسألة الثانية: تك: أصله من كان يكون وأصله تكون سقطت الضمة للجزم، وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار تكن ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة. وهي تشبه حروف اللين، وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم، كقولك: لم أدر، أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والاثبات، أما الحذف فههنا، وأما الاثبات، فكقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} [النساء: 135].
المسألة الثالثة: ان الله تعالى بين بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أنه لا يبخسهم حقهم أصلا، وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم.
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة، لأن مدة الثواب غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار: مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب، فيجعله عشرين جزءاً، أو ثلاثين جزءاً، أو أزيد.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته. مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} وقال الحسن: قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} هذا أحب إلى العلماء مما لو قال: في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن ذلك الكلام يكون مقداره معلوماً أما هذه العبارة فلا يعلم كمية ذلك التضعيف إلاّ الله تعالى، وهو كقوله في ليلة القدر إنها خير من ألف شهر.
وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجاً أو معتمرا فألفيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف، ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله: {أَجْراً عَظِيماً} فمن يقدر قدره.
النوع الثالث: من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لدن: بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكينا، يقول الرجل: عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر، ولا يقال: لدي مال ولا لدني، إلا ما كان حاضرا.
المسألة الثانية: اعلم أنه لابد من الفرق بين هذا وبين قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} والذي يحظر ببالي والعلم عند الله، أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب، وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب، والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه، فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية، وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة، وإنما خص هذا النوع بقوله: {مِن لَّدُنْهُ} لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال، لا ينال بالأعمال الجسدانية، بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الاشراق والصفاء والنور، وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية، وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية.


{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق، لتكون الحجة على المسئ أبلغ، والتبكيت له أعظم وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} [النساء: 40] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: إقرأ القرآن علي قال: فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال: أحب أن أسمعه من غيري قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة. وذكر السدي أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون للرسل بالبلاغ، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لأمته بالتصديق، فلهذا قال: {جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117].
المسألة الثانية: من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، وإذا جاء وقت كذا، فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل امة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم}. ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول} يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر. لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز، فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر، إذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الاسلام، وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي. لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو {تسوى} مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله، وقرأ نافع وابن عامر {تسوى} مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى: تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله: {اطيرنا بِكَ} [النمل: 47] {وازينت} [يونس: 24] {ويذكرون} [الأنعام: 26] وفي هذه القراءة اتساع، وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي {تسوى} مفتوحة التاء والسين خفيفة، حذفا التاء التى أدغمها نافع، لأنها كما اعتلت بالادغام اعتلت بالحذف.


المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله: {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} وجوها: الأول: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى.
والثاني: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء.
الثالث: تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: {ياليتنى كُنتُ ترابا} [النبأ: 40].
المسألة الرابعة: قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} فيه لأهل التأويل طريقان: الأول: أن هذا متصل بما قبله.
والثاني: أنه كلام مبتدأ، فاذا جعلناه متصلا احتمل وجهين:
أحدهما: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا كفروا به ولا نافقوا، وعلى هذا القول: الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الاسلام ولا يغفر شركا، قالوا: تعالوا فلنجحد فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا.
الطريق الثاني في التأويل: أن هذا الكلام مستأنف، فان ما عملوه ظاهر عند الله، فكيف يقدرون على كتمانه؟
المسألة الخامسة: فان قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
والجواب من وجوه:
الأول: أن مواطن القيامة كثيرة، فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] وموطن يتكلمون فيه كقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} [النحل: 28] وقولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فيكذبون في مواطن، وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا} [الأنعام: 27] وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم.
الثاني: أن هذا الكتمان غير واقع، بل هو داخل في التمني على ما بينا.
الثالث: أنهم لم يقصدوا الكتمان، وإنما أخبروا على حسب ما توهموا، وتقديره: والله ما كنا مشركين عند أنفسنا، بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن. وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
النوع العاشر: من التكاليف المذكورة في هذه السورة.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجهين:
الأول: أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم. فقرأ: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت هذه الآية، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في سورة المائدة.
وعن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه ذلك قال: اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال، فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة.
الثاني: قال ابن عباس: نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاهم الله عنه.
المسألة الثانية: في لفظ الصلاة قولان:
أحدهما: المراد منه المسجد، وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي.
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه يكون من باب حذف المضاف، أي لا تقربوا موضع الصلاة، وحذف المضاف مجاز شائع، والثاني: قوله: {لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات} [الحج: 40] والمراد بالصلوات مواضع الصلوات، فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز.
والقول الثاني: وعليه الأكثرون: أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة، أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى.
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي، وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد، وهو قول الشافعي.
وأما على القول الثاني فيكون المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا تقربوها حال كونكم جنباً إلا عابري سبيل، والمراد بعابر السبيل المسافر، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء.
قال أصحاب الشافعي: هذا القول الأول أرجح، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه قال: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة} والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة، إنما يصحان على المسجد.
الثاني: أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا، أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا، لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد، فإنه يجوز له الصلاة بالتيمم، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى.
الثالث: أنا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر، فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة ألبتة، فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم، فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية، وأما على ما قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى.
الرابع: أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء، وجواز التييم بعد هذا، فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية، والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله: {حتى تَغْتَسِلُواْ} ثم يستأنف قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} لأنه حكم آخر.
وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الالحاقات فكان ما قلناه أولى. ولمن نصر القول الثاني أن يقول: إن قوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} يدل على أن المراد من قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة} نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها، فكان حمل الآية على هذا أولى، وللقائل الأول أن يجيب بأن الظاهر أن الإنسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة، فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى.
المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه الله: السكارى جمع سكران، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على: فعالى وفعالى، مثل كسالى وكسالى، وأصل السكر في اللغة سد الطريق، ومن ذلك سكر البثق وهو سده، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا} [الحجر: 15] أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري. والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه.
إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ السكارى في هذه الآية قولان: الأول: المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
والقول الثاني: وهو قول الضحاك: وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر، إنما المراد منه سكر النوم، قال: ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين:
الأول: ما ذكرنا: أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن.
الثاني: قول الفرزدق:
من السير والادلاج يحسب انما *** سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول: الدليل دل عليه، وبيانه من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي تكليف ما لا يطاق، وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام:
رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.
والحجة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه» هذا تقرير قول الضحاك.
واعلم أن الصحيح هو القول الأول، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة، فأما حمله على السكر من العشق، أو من الغضب أو من الخوف، أو من النوم، فكل ذلك مجاز، وإنما يستعمل مقيدا.
قال تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] وقال: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2] الثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مراداً بتلك الآية، فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران؟ فنقول: وهذا أيضا لازم عليكم، لأنه يقال: كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا؟ ثم الجواب عنه: إن المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة.
وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المائدة، وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلالوت هذه الآية. هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ.
والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: قرئ {سكارى} بفتح السين و(سكرى) على أن يكون جمعا نحو: هلكى، وجوعى.
ثم قال تعالى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} قوله: {وَلاَ جُنُباً} عطف على قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} والواو هاهنا للحال، والتقدير: لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى، وحال ما تكونون جنبا، والجنب يستوي فيه الواحد والجمع، المذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الأجناب. وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد، وقيل للذي يجب عليه الغسل: جنب، لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر. ثم قال: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} وقد ذكرنا أن فيه قولين: أحدهما: أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد.
الثاني: أن المراد بقوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} المسافرون، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر.
قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً}.
اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أصنافاً أربعة: المرضى، والمسافرين، والذين جاؤا من الغائط، والذين لامسوا النساء.
فالقسمان الأولان: يلجئان إلى التيمم، وهما المرض والسفر.
والقسمان الأخيران: يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء، وبالتيمم عند عدم الماء، ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام:
أما السبب الأول: هو المرض، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات، كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة.
وثانيها، أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة.
وثالثها: أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة. لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن، فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين، وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء، بدليل أنه قال في آخر الآية: {فلم تجدوا ماء} وإذا كان هذا الشرط معتبراً في جواز التيمم، فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم، وهو إيضاً قول ابن عباس. وكان يقول: لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك. ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده، ثم قد دلت السنة على جوازه، ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوه قتلهم الله، فدل ذلك على جواز ما ذكرناه.
السبب الثاني: السفر، والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء، تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية.
السبب الثالث: قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس، ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه.
السبب الرابع: قوله: {أو لامستم النساء} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: (لمستم) بغير ألف من اللمس، والباقون {لامستم} بالألف من الملامسة.
المسألة الثانية: اختلف المفسرون في اللمس المذكور هاهنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة.
والثاني: أن المراد باللمس هاهنا التقاء البشرتين، سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه.
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: {أو لمستم النساء} واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته.
وأما القراءة الثانية وهي قوله: {أو لامستم} فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً، بل يجب حمله على حقيقته أيضاً، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال: المراد باللمس الجماع، بأن لفظ اللمس والمس ورداً في القرآن بعنى الجماع، قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237] وقال في آية الظهار: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة: 3] وعن ابن عباس أنه قال: إن الله حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضاً الحدث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} فلو حملنا قوله: {أو لامستم النساء} على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية، فوجب حمله على الحدث الأكبر.
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل، فوجب أن لا يجوز. وأيضاً فحكم الجنابة تقدم في قوله: {ولا جنباً} فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار.
المسألة الثالثة: قال أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله: {أو لامستم النساء} أما الملموس فلا.
وقال الشافعي رضي الله عنه: بل ينتقض وضوءهما معاً.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال: {فلم تجدوا ماء} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى، ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب.
حجة الشافي قوله: {فلم تجدوا ماء} وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب، فلابد في كل مرة من سبق الطلب.
فإن قيل: قولنا: وجد، لا يشعر بسبق الطلب، بدليل قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى} [الضحى: 7، 8] وقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وقوله: {ولم نجد له عزما} فإن الطلب على الله محال.
قلنا: الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا، إلا أنه لما أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم من بين قومه بما لم يكن لائقاً لقومه صار ذلك كأنه طلبه، ولما أمر الملكفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئاً ثم لم يجده، فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه.
المسألة الثانية: أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم، أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء، فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم؟ قد أوجبه الشافي رضي الله عنه، متمسكاً بظاهر لفظ الآية.
ثم قال تعالى: {فيتمموا صعيداً طيباً} وفيه مسائل: المسألة الأولى: التيمم في اللغة عبارة عن القصد، يقال: أممته وتيممته وتأممته، أي قصدته وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد، قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، تراباً كان أو غيره.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً.
قال الشافعي رضي الله عنه: بل لابد من تراب يلتصق بيده. احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد هو ما تصاعد من الأرض، فقوله: {فتيمموا صعيداً طيبا} أي اقصدوا أرضاً، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً.
وأما الشافعي فإنه احتج بوجهين:
الأول: أن هذه الآية هاهنا مطلقة، ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] وكلمة من للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.
فإن قيل: إن كلمة من لابتداء الغاية، قال صاحب الكشاف: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب: إلا معنى التبعيض، ثم قال: والاذعان للحق أحق من المراء.
الثاني: ما ذكره الواحدي رحمه الله، وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيباً، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: {فتيمموا صعيداً طيباً} أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب. أن قوله: {صعيداً طيباً} أمر بإيقاع التيمم بالصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها، ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع، فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط، لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة، فقال: «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا».
وقال: «التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء».
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين، وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين، وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الإبطين، إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع، فبقي اللفظ متناولاً للباقي. ثم ختم تعالى الآية بقوله: {إن الله كان عفوا غفورا} وهو كناية عن الترخيص، والتيسير، لأن من كان من عادته أن يعفو عن المذنبين، فبأن يرخص للعاجزين كان أولى.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16